سورة آل عمران - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
{ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول الله بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطنعهم في كل وقت، وعداوتهم له. ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، وازديادهم الكفر أن قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون، وإن أردنا الرجعة نافقنا بإظهار التوبة.
فإن قلت: قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأنّ الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.
فإن قلت: فلم قيل في إحدى الآيتين {لَّن تُقْبَلَ} بغير فاء، وفي الآخرى {فَلَن يُقْبَلَ}؟ قلت: قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بني على الشرط والجزاء. وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر. وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء سبباً في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم.
فإن قلت: فحين كان المعنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بمعنى الموت على الكفر، فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر.
فإن قلت: فأي فائدة في هذه الكناية، أعني أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع، قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها، ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة {ذَهَبًا} نصب على التمييز.
وقرأ الأعمش: {ذهب}، بالرفع رداً على ملء، كما يقال: عندي عشرون نفساً رجال.
فإن قلت: كيف موقع قوله: {وَلَوِ افتدى بِهِ}؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى. كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله، كقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} [الزمر: 47] والمثل يحذف كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله (ولا هيثم الليلة للمطيّ) وقضية ولا أبا حسن لها، تريد: ولا مثل هيثم، ولا مثل أبي حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت. وذلك أنّ المثلين يسدّ أحدهما مسدّ الآخر فكانا في حكم شيء واحد، وأن يراد: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً كان قد تصدق به، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه. وقرئ: {فلن يَقْبَلَ من أحدهم ملء الأرض ذهباً} على البناء للفاعل وهو الله عزّ وعلا، ونصب ملء. ومل لرض بتخفيف الهمزتين.


{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
{لَن تَنَالُواْ البر} لن تبلغوا حقيقة البرّ، ولن تكونوا أبراراً. وقيل: لن تنالوا بر الله وهو ثوابه {حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها. وتؤثرونها كقوله: {أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله.
وروي: أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله. إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ بخ ذاك مال رابح أو مال رائح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: افعلِ يا رسول الله فقسمها في أقاربه.
وجاء زيد ابن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها رسول الله أسامة بن زيد، فكأنّ زيداً وجد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الله تعالى قد قبلها منك». وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال: إن الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فأعتقها. ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة. فقال: خنتني، قال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه فقال: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي.
وقرأ عبد الله: {حتى تنفقوا بعض ما تحبون}. وهذا دليل على أنّ (من) في {مِمَّا تُحِبُّونَ} للتبعيض. ونحوه: أخذت من المال. ومن في {مِن شَيْء} لتبيين ما تنفقوا، أي من أي شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه {فَإِنَّ الله} عليم بكل شيء تنفقونه فمجازيكم بحسبه.


{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}
{كُلُّ الطعام} كل المطعومات أو كل أنواع الطعام. والحل مصدر. يقال: حل الشيء حلا كقولك: ذلت الدابة ذلاً، وعزّ الرجل عزاً، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «كنت أطيبه لحله وحرمه» ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال الله تعالى: {لاهنَّ حلٌّ لهم} [الممتحنة: 10] والذي حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على نفسه لحوم الإبل وألبانها وقيل العروق. كان به عرق النسا، فنذر إن شفي أن يحرّم على نفسه أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحبه إليه فحرّمه. وقيل: أشارت عليه الأطباء باجتنابه، ففعل ذلك بإذن من الله، فهو كتحريم الله ابتداء والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 16] إلى قوله تعالى: {عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18] وفي قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] إلى قوله: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} بزعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16